لوكيشن

الكيت كات

الفكرة الفلسفية أننا لو أصبحنا جميعًا عرايا في زحام، فلن ينتقد أحد الآخر أو يلومه لأننا جميعًا نشبه بعضنا، وفي موقف واحد، وهذا عري شديد البراءة
—داود عبد السيد

في بداية «الكيت كات» يُهدي داود عبد السيد الفيلم بأكمله لمُهندس الديكور«أنسي أبو سيف» في إشارة واضحة لأهم عُنصر في تلك التُحفة السينمائية، المكان.

أراد المخرج تسمية فيلمه «عرايا في الزحام» وهو ما رفضته الرقابة بشدة، ورغم تغيير اسم الفيلم فإن جوهره كان حاضرًا في كل كادرات المكان، تتميز العشوائيات بأنها نمو سرطاني على هامش العُمران، لا يهدف أصحابه لخلق قيمة جمالية أو جعل مساحة العيش مروضة لصالح إنسانيتهم إنما هم مساكين مهمتهم البحث عن جُحر يجعلهم مُنتمين للمدينة.

صنع «أنسي أبو سيف» ديكور فيه كل العيون مُتلصصة على بعضها البعض، وصنع داود عبد السيد هذا التأثير النفسي بأقصى درجاته.

فيبدأ داود فيلمه برجال يتعاطون الحشيش في دكان نصف مُغلق بينما عساكر السُلطة يسيرون جواره يدخنون لفافات التبغ بلا اهتمام، يؤسس من البداية لمكان متروك لتحلله، مثل حيوان ميت على طريق، لا تعبأ بها السلطة، جولة ليلية لرجل كفيف في الكيت كات يُمكن أن تُسقط في جعبته كل أسرار المكان، همس زوجة تخون زوجها وتُحضر عشيقها لمنزلها، همس ابنه وهو يشكو العنة لعشيقته في بدروم أرضي، تاجر مُخدرات يختبيء في شقة صديقه ليخونه مع زوجته، فالجميع عرايا في زحام مكاني يفضح أضعاف ما يستُر، حتى الأعمى الذي يتحسس سيره ستقطع عليه القصص رحلته كقُطاع الطريق.

يهمس الشيخ حسني لصديقه أن جده أسس الكيت كات، في البداية كان براحًا وشجرة كافور ضخمة لا أكثر، بقدر الهزل في العبارة إلا أن الشيخ حسني يُمثل ذاكرة مكان يُشبه الوطن، كان في زمن قديم جنة والآن صار مُستعمرة غير آدمية حلم الجيل الأصغر هو الإفلات منها بالسفر لأي مكان، يمنحنا داود عبد السيد الراحة البصرية من آن لآخر من الكيت الكات الخانق بمشاهد للأبطال في مراكب نيلية، براح يبقى على الشاشة لدقائق معدودة حين تُعاود منه تجد الكيت كات صار أكثر ضيقًا وقُبحًا.

بهذا التأسيس المكاني الكابوسي والخلاب في آن واحد يصير مشهد انطلاق رجل كفيف على دراجة بُخارية مُسرعة، خارج هزليته، هو مشهد انعتاق ولو لحظي، يهمس الشيخ حسني لابنه أنه كثيرًا ما يستيقظ باختناق كأن المكان بأكمله يجثم على صدره ولا يشتهي إلا الطيران بدراجة بخارية، ندرك من ذلك أهمية الحشيش في حياة الشيخ حسني الذي قايض به منزله، فالحشيش هو أجنحة الخيال التي يمكن أن يمتطيها وجدان رجل أعمى للإفلات من سجن المكان ولو للحظات.

بقدر ما يدور صراع الحبكة الظاهري حول نزاع مكاني على منزل يتم بيعه ويود صاحبه إخلاء سكانه، إلا أن المخرج يؤسس للمكان ككابوس هش، سكانه عرايا مهما احتموا بالجدران، كابوس هشاشته لا تنتظر سوى دفعة صغيرة ليصير رمادًا، خطأ عامل نائم جوار ميكروفون عزاء سيفضح الكيت كات بأكمله، يصير العُري المُعاش في العشوائيات والذي صنع في أصحابه عجزهم المقيم وهم يرتدون أقنعة الستر بينما يعرف كل منهم دواخل الآخر، يصير هذا العري حاضرًا باللفظ والصوت.

ينتهي الشيخ حسني وابنه على دراجة بخارية، يقود الجيل الأقدم المُثقل بنكسته الجيل الأحدث لذات الهوة حتى يسقطوا في النيل، لم يصنع المخرج شخصية بطل مُتحدية أو فاعلة أو حاكمة أخلاقيًا على واقعها، إنما شخص عاجز بعاهة حقيقية وعاجزين بعاهات نفسية يتشاركون قصر مرايا عُريهم وهشاشتهم فيه أقرب للبراءة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى